الحب لعنة

الموضوع في 'ركن القهوة' بواسطة قصير, بتاريخ ‏24 يناير 2017.

  1. قصير

    قصير عضو

    انضم:
    ‏7 ديسمبر 2016
    المشاركات:
    41
    التخصص:
    تسويق
    الجامعة:
    kfupm
    سنة التخرج:
    2019
    الجنس:
    ذكر
    التقييمات:
    +119 / 0 / -4
    #1 قصير, ‏24 يناير 2017
    آخر تعديل: ‏17 يونيو 2017
    (1)

    "حنين" ليست ملاكاً، ولا هي بالشيطان أيضاَ. هي بشر من نوع آخر، بمزايا دميمة و عيوب ساحرة. لكنها بشر رغم ذلك، تنطبق عليها أحكام القدر كما تنطبق علينا. كان قدرها أنها فريدة من نوعها، و كان قدري أن أقع في حبها.

    في صباي قسمت الحب إلى قسمين. الأول هو الحب الأصيل، حبك لوالديك و أهلك و أصدقائك. الحب الذي ينبع من معرفة حميمية بالحبيب لا العكس. و الثاني هو الحب الوضيع، حب الأجساد و شهوات النفوس. الحب الذي ينشأ لغاية و ينتهي مع انتهائها. بعد معرفتي لهاذين القسمين قررت بأنني أرفع و أسمى من أن أكون من أصحاب النوع الثاني. قررت في تلك اللحظة بأن أنزه نفسي عن هذا العالم، و أن أبعد نفسي عن رواده. ان لا أكون أحد أولئك الحمقى الذين يركضون خلف النساء في الأماكن العامة و كأنهم غنم تركض نحو مأكلها.

    في الرابعة و العشرين من عمري كنت لا أزال موفياً لهذا القرار. تخرجت من جامعتي و قد قضيت سنين الدراسة فيها بين الكتب. و كنت أنظر فيها لزملائي الذين يتفاخرون بمغامراتهم مع النساء نظرة احتقار، و إن ساء حظي عند زيارتي لسوق أو منتزه و واجهت إحدى النساء التي يصفون احتقرتهم أكثر. لم أكن أهرب من هذا العالم بقدر ما كنت أستغرب سخافة سكانه، و أحمد الله الذي لم يزين أفعالهم لي، و أراني زيف حبهم و زيف من يحبون.

    في صيف ما بعد تخرجي توظفت في شركة مرموقة، و كونها شركة توظف الجنسين لم يساعد في خفض عدد الأحباب السخيفين من حولي. إلا أن مشاعري تجاه الموضوع لم تتغير، "زميلاتي" الموظفات كن مثل زملائي الموظفين، البعض منهم جاد في عمله مراع لحدوده، و هؤلاء كسبوا احترامي. و البعض الآخر كان الأولى بهم أن يقضوا أوقات دوامهم في مقهى أو في سوق. أخرجت كل هذه التفاهات من رأسي، و ركزت في عملي. اشتغلت بجد و أمانة، و خلال سنة كنت مرشحاً لأن أصبح رئيس قسمي. كانت الخطة أن أعمل لسنتين أو ثلاثة، أدخر بعض المال لشراء شقة، ثم أطلب من والدتي أن تجد لي زوجة بعد أن كونت نفسي. كنت سأتزوج كما تزوج والدي من قبلي، و كنت سأكون زوجاً صالحاً، و كنت سأحبها بعد أن أعرفها فعلاً، سأحبها بعد أن تثبت لي - و أثبت لها - أنها أهل لحبي و إهتمامي بقية حياتنا.

    ثم في إحدى إجتماعات القسم الأسبوعية، دخلت حنين.
     
    • x 12 إعجاب إعجاب
  2. قصير

    قصير عضو

    انضم:
    ‏7 ديسمبر 2016
    المشاركات:
    41
    التخصص:
    تسويق
    الجامعة:
    kfupm
    سنة التخرج:
    2019
    الجنس:
    ذكر
    التقييمات:
    +119 / 0 / -4
    (2)

    أكره الفكرة الشائعة عن الوقوع في الحب. تلك التي تقول أن وقوعك في الحب شبيه بسقوط صخرة عملاقة على رأسك. أنه شعور جارف منذ البداية كشلال غزير من المشاعر يمر من خلالك فجأة. في الحياة الواقعية الحب يداهمك كما يداهمك النوم في نهاية يوم طويل. في البداية تتثائب بينما أنت منشغل هاتفك الجوال، تتجاهل الرسالة الأولى من جسدك بانه يريد النوم، تتثائب مرة أخرى،تحس بالإرهاق في جسدك، لكنك تستطيع المقاومة، تتثاقل أجفانك، تصبح القراءة فعلاً شاقاً، و رفع الجوال يصبح أصعب من رفع الأثقال، كل هذا و انت لا تزال منشغلاً بجوالك غير مبالٍ برسائل جسدك لك. في النهاية، و دون قرار واعٍ منك، تنام.

    دخلت حنين إلى قاعة الإجتماعات بوجه لم تبالي بتغطيته لا بنقاب ولا بزينة. سلمت على الحضور بثقة، التفتت إلى المدير قائلة: "آسفة عالتأخير"، و أخذت مكانها من الطاولة في الجهة المقابلة لي. شعرت برغبة في التثاؤب.

    للمرة الأولى في حياتي أحتاج أن أمنع نفسي من النظر إلى شخص آخر. ليس لأني أحبها، أو لأني أكرهها -ولا فرق بين الإثنين عندي الآن-. ليس لشيء واضح فعلاً. كل ما أعرفه أن المدير كان يتكلم عند رأس الطاولة، و أنا كنت أنظر له دون أن اسمع أو افهم كلمة مما يقول، جل تفكيري كان منصباً على الإنسية التي تجلس مقابلي، و التي أرى هيأتها بطرف عيني. في أحدى اللحظات ظننت أني رأيتها تلتفت نحوي، وجهت عيني بسرعة تجاهها. و يبدو أنني في تسرعي قد حركت رأسي أيضاً، لأنهما في تلك اللحظة، حنين و الفتاة التي عن يمينها، كسرا انتباههما مع المدير و نظرا نحوي. لأقل من ثانية إلتقت عينانا، هي بنظرات استغراب، و أنا بنظرات تدعو الله أن يأخذني قبل أن يقتلني خجلي من نفسي. نظرت مجدداً إلى المدير، و أنا اؤمن بأن لون وجهي صار أكثر حمرةً من الشماغ الذي أرتديه. كان هذا الموقف كفيلاً بأن يمنعني من النظر في تلك الجهة من الغرفة بقية الإجتماع، حتى في النهاية عندما قال المدير: "و قبل ما نروح هذي حنين، راح تبدأ تشتغل من بكرة في مكتب هند القديم"، كنت لا أزال أنظر له بالرغم من أن الجميع إلتفت نحوها. لم أتحمل فكرة أن أنظر لها لأجدها تنظر لي بإبتسامة تستصغرني. في مخيلتي، كانت ستخرج من غرفة الإجتماعات و تستخدمني كأداة حوارية لكسر الجليد مع بقية الموظفات. سيسألونها هل هي متحمسة لبدء الدوام هنا، و سترد بالإيجاب، لولا أنها متخوفة من مضايقات الشباب لها، مثل الشاب الحقير الذي قبضت عليه اليوم يسترق النظر إليها. لا أريد ان أكون "الشاب الحقير"، لذلك لن أنظر إليها.

    انتهى الإجتماع، خرجت منه و من المبنى كأني جندي يمشي في حقل ألغام. كنت واعياً بمكان وجودها دون أن أنظر إليها، أتفاداها كأنها الأسطورة الإغريقية ميدوسا، التي تحول كل من ينظر لها حجراً. في الطريق إلى البيت هدأت أعصابي، و بدأ عقلي بالتفكير، و سأل السؤال المميت: لماذا نظرت لها من الأساس؟
    كانت الإجابة البديهية بالنسبة لي مكونة من قسمين، الأول أنها موظفة جديدة في القسم، لذلك من الطبيعي أن أشعر بالفضول حيالها. القسم الثاني أنها جاءت متأخرة للإجتماع، و من الطبيعي أن أكون واعياً بوجودها، و اذا كنت واعياً بوجود شخص ما، و ظننت أن ذلك الشخص ينظر إليك، فمن الطبيعي أيضاً أن تنظر إليه. قررت أن هذا الشعور القاتل بالخجل ما هو إلا نتيجة نوع الشخص الذي صدف و أن نظرت له، و أن لو نفس الموقف كان ليحصل مع رجل لما شعرت بكل هذا الإحتقار لنفسي. سأنام الليلة، و غداً يوم جديد أنسى فيه ما حصل.

    نمت تلك الليلة متأخراً على غير عادة. قضيت نصف الليل أفكر كيف لم ألاحظ من قبل أن اسم "حنين" جميل لهذه الدرجة؟
     
    • x 10 إعجاب إعجاب
  3. قصير

    قصير عضو

    انضم:
    ‏7 ديسمبر 2016
    المشاركات:
    41
    التخصص:
    تسويق
    الجامعة:
    kfupm
    سنة التخرج:
    2019
    الجنس:
    ذكر
    التقييمات:
    +119 / 0 / -4
    (3)

    استيقظت اليوم التالي، و كأنه أي يوم آخر.

    صليت الفجر، تناولت الإفطار، ارتديت ملابسي و توجهت إلى العمل، مثل أي يوم آخر. دخلت الشركة السابعة إلا ربع، سلمت على البواب "حسن" عند دخولي، اتجهت إلى المصعد و صعدت مع الصاعدين، مثل أي يوم آخر.

    إلا أنه عندما توقف المصعد عند طابقي، و فُتحت أبوابه، كان هناك شيء مختلف اليوم. بين باب المصعد و مكتبي عدة مكاتب أخرى، كلها بدت لي اليوم كما كانت خلال كل يوم من السنة الماضية، عادية و غير مهمة. عدى مكتب "هند" القديم، الذي ظل فارغاً لعدة أسابيع، وكان اليوم -بالنسبة لي على الأقل- أشبه بنقطة سوداء في صفحة من البياض، يستحيل أن تلاحظ أي شيء غيره. كان باب المكتب مفتوحاً، و عندما ممرت من أمامه لمحتها جالسة على مكتبها. لقد حضرت قبلي!
    شعور غريب انتابني، دخلت لوهلة في وضع المنافسة، نتيجة دراستي في جامعة أقنعتني أن نجاح الآخرين يعني خسارتي. و قد شعرت بالمنافسة، بل و الغيرة أيضاً اذا أردت أن أكون صريحاً، مرات عديدة في حياتي. دائماً ما أواجه أشخاصاً يعملون أكثر مني، أو هم موهوبون أكثر مني، و كانت هذه المواجهات دافعاً لي لأعمل أكثر، و أنمي مواهبي أكثر. لكن الشعور الذي أحسسته الآن كان شيئاً مختلفاً، و كأنني شعرت بالإهانة لسبب ما. كأن حضورها المبكر تلميحة منها على أنها أفضل مني.

    توجهت إلى مكتبي محاولاً كبح هذا الشعور، بدأت بالعمل و انغمست فيه، و الشعور الغريب صار حكة في منتصف ظهري، لا أستطيع الوصول إليها لذلك أحاول تجاهلها. انتهى وقت الدوام و أنا لم أنته من العمل الذي أردت إنجازه، أخذت نصف ساعة أخرى لأنهيه. عندما خرجت كانت المكاتب الأخرى مغلقة و أصحابها قد توجهوا إلى منازلهم، بما في ذلك مكتب "هند" القديم، و الذي أصبح اليوم رسمياً مكتب "حنين". كان من المنطقي أن أشعر بالسعادة، نظراً لأني أثبت أني مجتهد في عملي أكثر منها، إلا أن المنطق قد غادر عالمي منذ دخلته حنين. عدت إلى منزلي و الحكة لا تزال هناك، حكة حزينة جداً.
    في اليوم التالي استيقظت أبكر من العادة، انتهيت من إفطاري أبكر من العادة، و دخلت الشركة السادسة بالضبط. "حسن" بالكاد فتح الأبواب، و نظر لي كأنني مجنون، ربما كان محقاً. عندما فُتحت أبواب المصعد كانت كل المكاتب مغلقة، حتى أضواء الممر لم تضئ حتى الآن. توجهت إلى مكتبي بهدوء، معتقداً "سيغمرني شعور الرضى أي لحظة الآن". عندما جلست على مكتبي استوعبت أن الأوراق التي سأعمل عليها اليوم لم تأت بعد. في السادسة و النصف، بعد نصف ساعة من الجلوس بلا فائدة،سمعت صوت المصعد يتوقف في طابقنا. خرجت من مكتبي مخططاً أن أستقبل "مصعب" - الذي يسلم المهمات من الإدارة إلى الأقسام- في الممر لأخذ أوراقي منه. عندما خرجت، رأيت مصعب، يمشي بجانب مدير القسم "أحمد"، و خلفهما، كانت حنين. كانت أنظر لها بشكل مباشر للمرة الأولى منذ الموقف المحرج، و عكس الموقف المحرج، كان نظري هنا مبرراً. نظرت هي إلي، قالت "السلام عليكم"، و دخلت مكتبها.

    سلمني مصعب أوراقي، علق هو و أحمد على حضوري المبكر جداً، مصعب قال نكتة ما مغزاها أن طلاب البترول يعتقدون أن رئيس القسم مثل الدكتور، إذا حضروا بعده بخمس دقائق لن يسمح لهم بالدخول. ضحكت بشدة على النكتة و كأنني أسمعها منه للمرة الأولى، و توجهت إلى مكتبي أشعر بخفة لم أعرفها سابقاً، اختفت الحكة التي توسطت ظهري البارحة، و قد نما لي في مكانها جناحان.
     
    • x 5 إعجاب إعجاب
  4. قصير

    قصير عضو

    انضم:
    ‏7 ديسمبر 2016
    المشاركات:
    41
    التخصص:
    تسويق
    الجامعة:
    kfupm
    سنة التخرج:
    2019
    الجنس:
    ذكر
    التقييمات:
    +119 / 0 / -4
    #4 قصير, ‏10 فبراير 2017
    آخر تعديل: ‏13 يونيو 2017
    (4)

    بإستثناء السلام، كانت أول كلمة قالتها لي حنين هي: "معليش".

    كان ذلك في الأسبوع الثالث، كنت منهمكاً في عملي، غارقاً تحت أكوام من الأوراق، محاولاً تجاهل شيء ما. و فجأة فتح باب مكتبي بعنف، رفعت رأسي لأوبخ الأحمق الذي لا يعرف كيف يطرق الباب، و إذا بها تدخل المكتب بثقة. كأنها أرادت أن تتكلم، إلا أن نظرة بلهاء إعتلت وجهها عندما رأتني، و أجزم أنني كنت أرتدي نفس النظرة. توقفت في مكانها و نظرت لي بتفحص، بينما أنا كنت لا أزال أنظر إليها كأنها جني اقتحم مكتبي، و دماغي يتحرك بسرعة غير معهودة، خلال ثانيتين فكرت في عالم من الإحتمالات: "ماذا أفعل؟ هل اسألها ماذا تريد؟ هل أطردها من المكتب؟ أم أطلب منها أن تجلس؟ لاااااا يا غبي، المهم الآن أن تتوقف عن النظر إليها هكذا، لكن أين أنظر؟ هل أتظاهر بأنها غير موجودة و أعود لعملي و كأن شيئاً لم يحدث؟"

    مع كل هذه الأفكار الغبية، من الجيد أنها تصرفت قبلي. قالت: "معليش، حسبته مكتب عبير" و توجهت إلى الباب، و هي تغلقه قالت بنبرة صادقة: "آسفة على الإزعاج". رددت أنا: "لا عادي". يا لها من بداية مناسبة، هي تعتذر لأنها اقتحمت حياتي، و أنا أقول لها أن لا داعي للإعتذار، و كأني أرحب بهذا الإقتحام.

    ثاني شيء قالته لي كان في أحد الاجتماعات الأسبوعية، حيث أخذت مكانها الدائم في الجهة المقابلة لي من الطاولة، و مارست أنا رياضة "لا تنظر إلى حنين" بإحتراف يليق ببطلها العالمي. في ذلك اليوم طرقت على الطاولة عدة طرقات محاولة لفت إنتباهي، رفضت أن أنظر خشية أن أكرر كارثة اليوم الأول سيء الح1 إلا أن نطقها لإسمي لم يدع مجالاً للشك، و كان كفيلاً بأن يوقظني من غيبوبة لو احتاج الأمر. إلتفت لها، و إذا بها تشير إلى قلمها الموجود أمامي، يبدو أنه تدحرج جهتي، أعدته لها في صمت، قالت: "شكراً"، رددت و أنا أنظر بعيداً: "العفو". كيف لم ألاحظ أن اسمي جميل لهذه الدرجة سابقاً.

    ثالث شيء قالته لي هو: "تحت؟" عند المصعد في إحدى الأيام، رابع شيء هو: "خالد ترك لي أوراق عندك؟" عندما قرر خالد أن يغادر العمل مبكراً و يكلفني بمهمة تسليم الأوراق لها، دون أن يعلم أنه بهذا الفعل شتت ذهني لبقية اليوم، حيث جلست أنتظر قدومها غير قادر على التفكير في أي شيء آخر. ما أحاول قوله هو أنني عملت مع حنين مدة نصف سنة، و بإمكاني دون مبالغة أن أصف كل يوم من هذه الشهور الستة، أو على الأقل لحظات معينة من كل يوم. يمكنني أن أصف الأفكار التي تخطر لي و أنا أمر أمام مكتبها بالصباح، يمكنني أن أصف شعوري عندما رأيتها للمرة الأولى بحجاب أبيض بدل الأسود المعتاد، يمكنني أن أصف لحظات الإنتظار في قاعة الإجتماعات قبل أن تدخل هي القاعة، أو تلك المرة التي كانت هي في القاعة قبلي، و جلسنا لوحدنا في صمت عدة دقائق قبل قدوم بقية الموظفين. يمكنني أن أصف كل هذا و أكثر، لكنني لن أفعل. لأن لا وقت لدي لذلك، و لإن رغبتي بفتح جرح لم يلتئم تماماً لا تعني بالضرورة أني أريد رشه بالعطر. لذا سأختصر.

    كل ما أحتاج أن اقوله عن الشهرين التابعين للقائي حنين هو أنهما مضيا بطريقة مختلفة عن الكليشيهات المبتذلة. لم أفقد شهيتي، لم ينقص وزني، لم تسئ جودة عملي –بالعكس تحسنت-. إلا أنهما لما يكونا شهرين عاديين أيضاً، التغيير كان طفيفاً، لكنه (كان) على أي حال. كان اليوم مثل أي يوم آخر حتى أمر من أمام مكتبها، أو تمر هي من أمام مكتبي، أو أراها في الإجتماع الأسبوعي. كنت أسيتقظ للعمل صباحاً و أنا أشعر بنوع غريب من السعادة و التوق، وكنت أتوجه إلى غرفة الإجتماعات و أنا واعٍٍ تماماً بنفسي، بالطريقة التي يرتاح فيها العقال فوق رأسي، وزن الجوال في جيبي، و المكان الذي سأضع فيه يداي عندما أجلس على الطاولة، ذلك النوع من الوعي الذي يتملكك قبل عرض تقديمي مهم أو في المقابلة الشخصية لوظيفة. حتى في العطلة الأسبوعية، فترات راحتي المزعومة. عندما أخرج مع أصدقائي و يبدؤون بالكلام عن موضوع لا يهمني، يهيم تفكيري نحو الشركة، و موظفي الشركة، و المشية من المصعد نحو المكتب. و دون ان أدري أسمع (سطام) –صديق الطفولة و شقيق الروح- يعرض علي للمرة المليون أن أتوظف معه في نفس الشركة، محاولاً إقناعي أن متعة العمل معه ستذكرني بأيام الثانوية، و ستنسيني أن شركته أصغر بمراحل من شركتي الحالية.

    و التغيير الأهم، هو أنني طوال كل تلك الأيام، و خلال كل تلك اللحظات، كنت أصارع كلمة تحاول الخروج من أعماقي. كلمة كانت تصطدم بصدري مندفعة عندما أخرج من المصعد كل صباح، أغص بها لئلا تفلت من حلقي في كل إجتماع، تطرق شفتاي المغلقتان بحزم لئلا تتسرب في كل لحظة تفكير وحيدة. كنت أخشى أن تخرج صرخة، كنت أخشى أن تخرج همسة، كنت لا أعترف بوجودها إطلاقاً.

    في تلك العطلة الأسبوعية، عندما اقترح أحد الشباب مازحاً أن نوقف سيارة الآيسكريم بعد العشاء، قلت دون تفكير: "أنا أحب الآيسكريم".
     
    • x 5 إعجاب إعجاب
  5. قصير

    قصير عضو

    انضم:
    ‏7 ديسمبر 2016
    المشاركات:
    41
    التخصص:
    تسويق
    الجامعة:
    kfupm
    سنة التخرج:
    2019
    الجنس:
    ذكر
    التقييمات:
    +119 / 0 / -4
    (5)

    لاحقاً في علاقتنا –كم هو محزن أني أراها علاقة؟- عرفت أن حنين انضمت إلى شركتنا بمحض الصدفة. أنها كانت على وشك قبول وظيفة أخرى، قبل أن تعرف عن هذه الوظيفة من قريبتها التي قابلتها في مناسبة لم تكن تريد الذهاب إليها أصلاً. و أنه لولا أن والدتها أرغمتها على حضور هذه المناسبة لكانت قبلت العرض الآخر، في الشركة الأخرى، في المدينة الأخرى. بعيداً جداً جداً عني.

    عند معرفتي بهذه المعلومة للمرة الأولى اعتقدت أنها دليل على رغبة القدر أن يجمعنا، أن الله أرسلها لهذه الشركة من بين كل الشركات، و أرسلني أنا أيضاً، لنكون معاً. الآن أعرف سذاجة ذلك التفكير، و غباوة التقول على الله. و إن كنت أريد ربط هذه الصدفة برغبة إلهية، فالأرجح أنها عقاب لي على تكبري. أنا الذي نظرت بدونية إلى أولئك الذين فتنوا بالحب و ركضوا وراءه. أنا الذي إعتقدت أن عدم إفتتاني نتاج بوصلتي الأخلاقية القوية، و أخلاقي السامية عن التوافه. أنا الذي ظن أنه في معصم من السقوط، و نسي أن الله عصمه.

    على كل حال، الحكمة الإلهية خلف ما حدث لا تهمنا نحن البشر. المهم أن ما حدث حدث، انضمت حنين للشركة، أحرجت نفسي أمامها خلال دقائق من رؤيتها، و أصبحت أحمل رواسب هذا الإحراج، و المشاعر الأخرى التي ولدت ذلك اليوم، معي في كل مكان. و بالتحديد، كنت أحس بثقلها الساحق فوق ظهري في كل إجتماع أسبوعي. أحضر مبكراً للإجتماع، أجلس بهدوء، أنظر إلى الأمام، و أظل هكذا من دون حركة. أجلس مثل صنم، و في لحظات أتمنى لو أنني. يمكنني أن أخبرك وقت دخولها القاعة بالدقائق، و وقت خروجها أيضاً. كم مرة سعلت، كم مرة عطست، و كم مرة كتبت في دفتر الملاحظات أمامها. كل هذا دون أن ألتفت لها أبداً. بعد مرور شهرين، و في إحدى هذه الإجتماعات، تكلم المدير أحمد عن رغبة الشركة في التوسع. قال أن الإدارة طلبت منه أن يرشح فريقاً من موظفي قسمنا، يقودهم هو بنفسه، ليتفرغوا تماماً لهذا المشروع التوسعي و يوجهوا كل طاقاتهم لإنجازه.

    عندما أعلن أحمد الأسماء الخمسة المختارة، كان الفرق بيننا اسمان فقط. "سارة" و "خالد" يفصلان بيننا الآن.
     
    • x 6 إعجاب إعجاب
  6. kfuhus

    kfuhus عضو

    انضم:
    ‏20 أغسطس 2015
    المشاركات:
    13
    التقييمات:
    +4 / 0 / -0
    بانتظار التكملة ...
     
    • x 1 إعجاب إعجاب
  7. قصير

    قصير عضو

    انضم:
    ‏7 ديسمبر 2016
    المشاركات:
    41
    التخصص:
    تسويق
    الجامعة:
    kfupm
    سنة التخرج:
    2019
    الجنس:
    ذكر
    التقييمات:
    +119 / 0 / -4
    (6)


    المنطق سلاح العقلاء.
    كنت أكذِب "المحبين" لا لأنهم يخالفون تعاليمي الدينية أو يعاكسون بوصلتي الأخلاقية - مع أني لا أشكك في قدرتهم على المعاكسة -، في نهاية اليوم الدين و الأخلاق يعترفان بالحب و يباركانه. كنت ببساطة أكذبهم لأن ما يقولون غير منطقي. أستطيع أن أسلم بأنك تحب ابنة عمك التي ربت معك، أو أنك تحبين ابن جيرانكم منذ الصغر. لكن كيف يمكن أن يحب شخصٌ شخصاً دون معرفة مسبقة؟ كيف تزعم بأنك أحببت فلانة منذ النظرة الأولى؟ ماذا كان هناك لتحب سوى وجهها - أو جسدها اذا كنت موحلاً في الحقارة-؟ و ماذا يحدث عندما تتعرف على "حبيبك"؟ ما هي ردة فعلك عندما ترى منه شيئاً لا يعجبك؟ هل يزول الحب؟ أمشاعرك واهنة لهذه الدرجة؟

    بعد شهرين من العمل معاً، كان المشروع الجديد هو أول عمل نقضيه "معاً".

    عندما أعلن أحمد أسماء الفريق عجزت عن الكلام، فكرة أننا سنعمل معاً بشكل مركز جمدتني في مكاني. و بدل أن أعزو نوبة الذعر التي انتابتني إلى الموقف المحرج في اليوم الأول قررت تجاهلها بشكل كامل، يبدو أنني كنت أعي سخافة ذلك العذر في تلك الفترة. و بالرغم من أني كنت أحاول تجاهل هذه المشاعر منذ البداية دون فائدة إلا أن الوضع اختلف هذه المرة.

    كان اختياري جزءاً من هذا المشروع مهماً للغاية بالنسبة لي، كوني أصغر عضو في الفريق و اقلهم خبرة يعني أن الإدارة العليا تعي بقدراتي، بل من الممكن أنها تريد اختبارها. كنت أعتقد أنني سأحتاج سنتين إضافيتين من العمل لأرأس قسمي الخاص، لكن مع المشروع الجديد من الممكن أن أقلص هذه المدة إلى شهرين. فرص مثل هذه لا تأتي كل يوم، و فرصة أن أكون أول رئيس قسم تحت الخامسة و العشرين في تاريخ الشركة تستحق كل تركيزي.

    توجهت إلى الشركة في اليوم الأول من المشروع بنظرات حديدية. و دخلت غرفة الإجتماعات -مركز العمل على المشروع- عازماً النية على فتح صفحة جديدة، صفحة أقوى و أكثر تركيزاً.

    جلسنا نحن الخمسة بينما أعطانا أحمد نظرة عامة عن المشروع، عن الأهداف المخططة له، عن المهمات المطلوبة منا، و النتائج المتوقعة. عندما لاحظت الصمت الذي أطبق على الغرفة بعد انتهائه من الكلام قررت استغلال الفرصة و وضع بصمتي الأولى على المشروع. قلت له: "بس ما تحس طريقة العمل الجماعية مضيعة للوقت؟ يعني مب الأفضل كل عضو في الفريق يستلم مهمة و ينهيها لوحده؟ أشوف فكرة اننا الخمسة نشتغل على كل مهمة كمجموعة راح تأخذ وقت أكثر من اللازم".

    همَ أحمد بالكلام، إلا أن صوت قهقهتها أوقفه، و كاد أن يوقف قلبي معه. عندما إلتفت الجميع إليها بإستغراب كانت تحاول كتم ضحكتها. نظراتهم المستفهمة دفعتها للحديث: "بس اذا كل عضو يستلم مهمة أجل ايش الفائدة من تكوين فريق أساساً؟ نقدر نخلص الشغل في دوامنا الطبيعي. الي فهمته من كلام أحمد هو أن ما فيه طاولة زمنية للمشروع، و هذا معناه أن عامل الوقت غير مهم بالنسبة لجزئيتنا في المشروع، و أن الإدارة تبي دقة أكثر، هالدقة نقدر نحققها إذا كل مهمة تتم مراجعتها عن طريقنا الخمسة".

    قالتها لأحمد. قالتها دون أن تلتفت إلي، و كأنني أقل من أن تسقط عيناها علي. و الإحتقار الذي لم أتلقى من نظراتها وصلني كاملاً من نبرة صوتها. من تظن نفسها؟ كيف ترد على سؤال لم يوجه لها؟ و كيف ترد بهذه النبرة الساخرة و تضحك كأنها في مقهى بين صديقاتها؟ مثل هذه النبرة أستحي أن أستخدمها مع أخي المراهق، وهي لا ترى مشكلة في إستخدامها مع زميل عمل. أتعتقد أن بوسعها إحتقاري لأني أصغر أعضاء الفريق؟ صغر سني سبب آخر لإحترامي، و هي التي قاربت الثلاثين ولا تزال تعمل معي بنفس المستوى. أم أن هذا بسبب نظرتي لها في الإجتماع الأول؟ لا يحق لها أن تحقد علي بسبب خطأ بسيط و هي التي اقتحمت مكتبي الخاص ثم خرجت كأن شيئاً لم يكن.

    لا أعرف كيف كتمت غيضي، أو إن كنت كتمته أصلاً. من الممكن أن العروق التي زينت جبيني المحمر قد كشفت دواخلي، كل ما أعرفه أنني جلست في صمت و نظرت لأحمد و هو يشرح لي أن كلامها صحيح و أنه يتفق معها، لم أتحرك، لم أنظر لها لباقي الإجتماع.

    تلك الليلة كانت المرة الأولى التي أذكر فيها حنين لسطام. اتجهنا للبحر حتى يخبرني عن آخر التطورات في عمله بعد أن ترقى حديثاً. بدأ يقص لي كيف أبهر مجلس الإدارة في إجتماعه الأول، و عندما لاحظ قلة تفاعلي معه سألني ما الذي يزعجني. قلت له: "لا ولا شيء بس موظفة جديدة في الشركة مستقعدة لي". لا أعرف لماذا قلت ذلك. حنين ليست موظفة جديدة، شهران من العمل في الشركة و المشاركة في مشروع مهم ينفيان عنها هذا اللقب. و الموقف الذي حدث اليوم بقدر ما أزعجني لم يكن كافياً ليوصف بـ "الإستقعاد". رد هو: "اها، عوافي". و أكمل قصته. تمنيت لو أنه طلب مني تفاصيل أكثر او استفسر عن اسم الموظفة. كنت أريد الحديث عنها أكثر، ربما كتفريغ للغضب الذي يعتريني.

    للأسف لم يتفرغ هذا الغضب. دخلت الشركة اليوم التالي بنفس درجة الغليان التي دفعتني خارجها بالأمس. في قاعة الإجتماعات بدأ الفريق بمناقشة النقاط الرئيسية، و كنت أحاول تجاهل الحقد المتراكم داخلي و التركيز على العمل، لكن دون جدوى. قبل نهاية اليوم لم نكن انتهينا حتى من ربع النقاط التي عزمنا عليها، كل نقطة كانت تستغرق منا ساعات لأنها تتعرض لمناقشة مفصلة يشارك فيها كل الأعضاء. بإستثنائي طبعاً، حيث كنت أشارك بكلمات موجزة لئلا ينسوا وجودي فقط، لم أركز معهم منذ البداية ولا داعي للمحاولة الآن. ربما لأن التركيز على العمل كان يتطلب التركيز عليها، و الإنسان لا يتحمل سيلاً مستمراً من السلبية هكذا.

    "وش رأيك؟"

    خشيت أنها وجهت سؤالها لي عندما لاحظت الصمت الذي تبعه. عندما رفعت رأسي تأكد خوفي، حيث كانت هي و بقية الفريق ينظرون لي بترقب. تلفَتُ لعدة ثواني قبل أن أقول: "رأيي في وش؟". ضحك خالد قائلاً: "و أنا أقول غريبة ساكت أثاريك سرحان؟". تجاهلته حنين و قالت: "شوف عندك النقطة رقم 13، سارة و بدر يقولون أنها مش ضرورية و نقدر نتخطاها بس بما أنها من اختصاصك قلت رأيك مهم"

    و مثلما حاولت كتم غيضي في المرة الأولى، حاولت إخفاء إبتهاجي هنا. كنت أقلب الأوراق و أنا أشد على شفتي لئلا ينبسطا، و عندما أعطيت رأيي كنت أشد على أطراف الطاولة السفلية لئلا ابدأ بالدوران في الكرسي المتحرك مثل طفل في محل أثاث. هكذا، و دون فترة تحول، أصبحت المغرورة المتكبرة موظفة ممتازة و شخصاً جيداً. الصخور المتكتلة في صدري ذابت ماءً نقياً لا تشوبه شائبة. هكذا مر اليومان الأولان، و هكذا مر الشهران الأولان من المشروع الجديد. أصبحت أداوم كل يوم بمزاجٍ تحدده لعبة "اكشط و اربح" اليومية: ماذا ستقول حنين اليوم؟ تقول لي "صح عليك" فأطير، تهز رأسها نافيةً فأغرق. تبتسم في وجهي صباحاً فأرقص، تقول لي "من جدك؟" فأحترق. أدخل قاعة الإجتماعات، تنظر لي، تظهر ملامح الإستغراب عليها، تعاود النظر إلى أوراقها، و أظل أنا لما تبقى من اليوم أعدد الأسباب التي دفعتها لتنظر لي هكذا.

    و هكذا أصبحت مثالاً مثالياً لعيب آخر من عيوب الحب المبتذلة. أصبحت الشخص الذي ينقلب مزاجه في لحظات، الشخص الذي يسأله أصدقائه ما الذي يشغله فيتعذر بضغوطات العمل و ظروف الحياة. الشخص الذي يتصرف و كأن كل شيء حوله قد انقلب جحيماً لأنه "رأى" شخصاً ما. لكن الان بعد أن وضعت في نفس الموقف و لبست نفس الثوب، اتضح لي جانب مختلف من هذه الصورة النمطية المبتذلة. و هو أن الظروف لم تتغير، كل شيء حولك قبل الحب يستمر كما هو خلال الحب و بعده. أفعال حنين بنفسها ليست فريدة من نوعها، ليست هي أول شخص يحتقرني أو يثني علي، و لن تكون الأخيرة. ما أعرفه الآن هو أن التغيير الذي يحدث تغيير داخلي.لأن في الحب خفة غير محمودة.

    ما حدث ليش اشتداداً لحدة الظروف الخارجية، بس وهناً و ضعفاً للمشاعر الداخلية. كل الأفعال الطبيعية سابقاً تحمل معاني جديدة الآن. القهقهات من الغير لا تشبه القهقهات منها، الإطراءات من الغير لا تشبه الإطراءات منها. كل لمزة تصرخ كرهاً و إحتقار. و كل غمزة إعلان حب و ميثاق مودة. مشاعري المتزنة سابقاً فقدت ثقلها، و أصبحت تتأرجح مثل ريشة. ترفعها همسة، و تخفضها همسة.
     
    • x 7 إعجاب إعجاب
  8. قصير

    قصير عضو

    انضم:
    ‏7 ديسمبر 2016
    المشاركات:
    41
    التخصص:
    تسويق
    الجامعة:
    kfupm
    سنة التخرج:
    2019
    الجنس:
    ذكر
    التقييمات:
    +119 / 0 / -4
    #8 قصير, ‏11 يونيو 2017
    آخر تعديل: ‏17 يونيو 2017
    (7)

    عندما كنت في المرحلة الإبتدائية كانت تزعجني قصص ورع الصحابة و التابعين.

    القصص الشبيهة بقصة عمر بن الخطاب و حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، عندما سأل الخطاب حذيفة - و هو أمين سر الرسول عليه الصلاة و السلام و الذي كان يعرف اسماء المنافقين في المدينة-: "نشدتك الله يا حذيفة ! هل سماني لك رسول الله في المنافقين؟". أو قصة بكاء حنظلة بن الربيع رضي الله عنه خوفاً من نفس الداء. أو قصص التابعين الذين يتصدقون في أحلك الليل خوفاً من أن تكون صدقتهم رياءً. كنت أقول -بسذاجة الطفل الذي اعتقد أنه أذكى من الجميع- لماذا هذه الوسوسة و المبالغة؟ لماذا تخاف أن تكون صدقتك رياءً و أنت صاحب الصدقة؟ إذا كانت نيتك صافية فلا داعي للقلق، لأنك حتى لو خشيت أن يراك الناس مرائياً فإن الله يعرف صدق نيتك.

    عندما كبرت اتضح لي غباء أفكاري، و عرفت أن أسطورة الإنسان الواعي بكل مشاعره الداخلية ما هي إلا ذلك، أسطورة. لماذا أذكر هذه المعلومة؟ لأن هذا الجزء من القصة عصي على الشرح.

    في الحب الحقيقي لا توجد لحظة تنويرية، لا توجد لحظة "وقوع" في الحب. لا يمكنك تحديد اليوم الذي أعلنت فيه حبك لوالدتك أو ولدك. ليس بإمكانك تذكر لحظة معينة ربطتك بصديقك للأبد. هذه العلاقات تعيش معك، تقضي معها أيامك، و تصبح حباً دون وقوع. لكن في الحب الحقير توجد هذه اللحظات، بل و تمجد أيضاً. أحياناً أعتقد أن المحبين يدخلون علاقاتهم أصلاً ليعيشوا لحظات الشغف هذه.

    هل هناك لحظة تنويرية مع حنين؟ لا أدري. المنطق لا يجدي نفعاً هنا، و محاولة "منطقة" القصة عملية مجهدة و مؤذية للرأس. الآن أعرف أن حنين دخلت مع باب غرفة الإجتماعات فأحببتها، أن كل شيء تغير منذ ذلك اليوم، و أنني أصبحت مثالاً على كل الأشياء التي كنت أكره. لكني في تلك الفترة لم أكن أعرف ذلك. في تلك الفترة لم أكن قادراً على تعريف هذا النوع من الحب، ناهيك أن أصف شعور الوقوع فيه. لذا السؤال الأهم، متى عرفت بالضبط؟

    مر الشهران الأولان من المشروع الجديد بسرعة، مثل حلم يكاد ينقلب كابوساً في أي لحظة. كنت مشغولاً طوال الوقت، في اللحظات التي أرتاح فيها من تقلبات مزاجي الغبي يداهمني ضغط العمل فجأة. خلال هذين الشهرين حققنا الكثير من الإنجازات المتعلقة بالمشروع. انتهينا من الصورة العامة و بدأنا بتخطيط التفاصيل الصغيرة. و خلال الشهرين أيضاً تغيرت دينامكية الفريق عما كانت عليه في البداية. منذ الأسابيع الأولى كان واضحاً طغيان صوتي و حنين على بقية الأعضاء، و بالرغم من أننا كنا نستشيرهم في أمور اختصاصهم، إلا أن غالب القرارات الحاسمة كانت تحدث بيني و بينها. مع تقدم المشروع أصبح وجود أحمد رمزياً، كان لا يحضر بعض الأيام حتى، و أصبحت أنا و هي القادة غير الرسميين للفريق. العلاقات الشخصية بين أعضاء الفريق أصبحت أكثر مرونة هي الأخرى. ليس بقدر كبير طبعاً، في نهاية المطاف هذا لا يزال مكان عمل، و مكان عمل مختلط زيادةً على ذلك. لكن في الأسابيع الأخيرة أصبح من الطبيعي أن تتحور النقاشات الطويلة عن المشروع إلى محادثات عن حالة البلد الإقتصادية، أو فضاضة قسم الدعم الفني في الشركة، أو مغامرات خالد أيام دراسته في بريطانيا.

    في العطلة الأسبوعية الأولى بعد هذين الشهرين تملكتني رغبة غريبة في شراء عطر جديد. و بما أني أكره الأسواق و أعتبر الذهاب إليها مشقة لا تطاق، راسلت سطام ليرافقني رحلتي. كنت أحتاج رفيقاً ليسمع أحكامي على مرتادي الأسواق، على العوائل الضخمة و الأطفال المزعجين، النساء المائعات و الرجال الحقيرين.

    درت أنا و سطام من محل إلى آخر لساعتين دون جدوى. كل العطور التي أعجبتني لم تعجبه و لم يسمح لي بشرائها، قائلاً أنه لا يستطيع أن يسمح لصديقه أن يحرج نفسه في عمله و يفوح برائحة سيئة. و اذ حاولت تجاهله أعلن استيائه من العطور بشكل علني حتى يدفعني من المحل محرجاً. و بين كل محل و محل نبدأ بالتعالي على الأغبياء حولنا، خصوصاً الرجال الذين توحي مظاهرهم بأنهم خرجوا للتو من حفل زفاف، و نحمد الله أننا لسنا منهم.

    بعد الساعة الثانية دخلنا محل عطورات ضخم، و كنت قد بدأت أشعر بالإنهاك. أعلنت له أن هذه محطتنا الأخيرة، سأشتري عطري من هذا المحل شاء أم أبى، و ضحك هو بخبث كأنه يتحداني. توجهنا إلى قسم العطورات الرجالية و بدأنا برش العبوات التجريبية و استنشاق الأوراق المقواة. أعجبني ثالث عطر جربناه و قلت أنني أريد شراءه، ضحك سطام قائلاً: "من جدك تبي تشتري و أنت ما جربت حتى ربع العطور الي عندهم، ترا ما بيحاسبونك على الورق الي تشمه، تعال تعال" و تحرك إلى جهة أخرى دون أن يشاورني. تبعته مستسلماً. و قمت اتأمل حجم المحل، يبدو أننا سنقضي ساعة ثالثة في هذا المحل لنجرب كل عطورهم الرجالية، و ضعف هذا الوقت اذا قرر سطام ان العطور النسائية تستحق التجربة أيضاً. وعندما نظرت إلى القسم النسائي، رأيتها.

    وقفت هناك بجدية و كأنها لا تزال في الشركة. مظهرها يوحي بالإحترافية دون بهرجة و زخرفات. لكن بإختلاف الشركة، لم يكن هناك مكتب يحمل اسمي لأهرب له، لم تكن هناك غرفة اجتماعات أتوجه إليها دون مبالاة، أو أوراق عمل أتصفحها عندما نتصادف في الممر. لم يكن هناك خالد، لم تكن هناك سارة، لم يكن هناك عمل لتتم مناقشته. هذا التغيير العجيب في القواعد سبب لي أزمة عقلية، لم أستطع تقدير الموقف. شعرت بخجل شديد دون سبب، و أعطيتها ظهري بمجرد أن حركت رأسها. هل رأتني؟ لا أعرف، و لم أنتظر لأعرف. توجهت إلى سطام بسرعة، عندما رآني هم بالكلام عن العطر الذي بيده لكنني لم أعطه الفرصة. قلت له: "خلاص ما عاد أبي عطر، الحقني السيارة" و اتجهت نحو الباب غير مبالٍ بمناداته أو تأكيداته لي بأنه سيدعني أختار العطر الذي يعجبني. كل ما كان يشغلني في تلك اللحظات هو رعب تام من أن تكون قد انتبهت هي لصوته المرتفع و التفتت لتعرف من ينادي هذا المزعج.

    في الطريق إلى منزله أمطرني بالأسئلة، و كل التبريرات التي تسكت الآخرين لم تفلح في إسكاته. عندما بدأ بالإعتذار مني شعرت أن شيئاً فيَ إنكسر. أخي الذي لم تلده أمي يعتقد أن مزاحه معي قد أغضبني، و كيف ألومه و هو الذي رآني أخرج من المحل كأن جنياً يطاردني؟ أحسست بالذنب، بأنني لا أستحق طيبة قلبه هذه. و عجزت عن تفسير الوضع له، ربما لأني لم أكن قادراً على تفسيره لنفسي حتى. أكدت له أنني لم أتضايق منه، و أن سبب خروجي من المحل هو تذكري لأوراق العمل التي تنتظرني في شقتي. و دعوت الله أن يعميه عن الحقيقة، و أن يسامحني إذ وضعته في هذا الموقف.

    في تلك الليلة بدأت هذه العادة السيئة.

    كنت أريد النوم، لكن لم أستطع. استلقيت لمدة ساعتين بعد وصولي الشقة لكن دون فائدة. كنت أشعر بالإختناق، أردت لهذا اليوم التعيس أن ينتهي، لكن لا جدوى. لذا بدأت بالدوران في شقتي مثل مجنون، أفتح الدواليب و الأدراج و أغلقها دون سبب. كل هذا على أمل أن أفعل شيئاً يخفف من الغصة التي أشعر الآن. عندما لم يفلح ذلك أيضاً، جلست أمام حاسوبي المحمول، و فتحت المايكروسوفت وورد. و بدأت بالكتابة.

    و بمجرد أن فعلت ذلك هدأ العالم من حولي. الصفحة البيضاء الناصعة امتصت كل الضوضاء. الجمل الأولى لم تكن مفهومة، أذكر أن واحدة منها كانت "عصير الجوافة جريمة بحق كل ما هو حلو في هذا العالم". في الصفحة الثانية ازدادت وضوحاً، و أصبحت أكثر شخصية. كتبت "سطام يملك ثالث أطهر قلب في العالم، و لو لم أعرف أمي و خالتي مها لأقسمت أنه الأول". في الصفحة الثالثة اختفت المبالغات و الزخارف، و أصبحت حقائق مجردة. كتبت "عندما قالت حنين أن أي شخص تحت الخامسة و العشرين لا يزال مراهقاً، شعرت بالإهانة".

    و مع نهاية الصفحة الثالثة لم يتبقى سوى سؤال واحد يجول في عقلي: "لماذا هربت؟". رفعت أصابعي على لوحة المفاتيح، و كتبت: "أنا أحب حنين".

    و بمجرد أن كتبتها انقطع الشك باليقين، زالت الوساوس و الظنون و اتضح لي الأمر المبين. في لحظة واحدة كنت و كأنني عرفت هذه الحقيقة منذ البداية، و ربما فعلاً كنت أعرف منذ البداية، كل التصرفات و الأحداث السابقة تدل على ذلك. اذا لماذا أصريت على إنكار هذا الأمر؟ لماذا كنت أرفض مجرد التفكير فيه؟ و لماذا ازداد شعوري بالقلق و الخوف؟ أليس من المفترض أن يتبع الإعتراف راحة عارمة و شعور بالرضى؟ لماذا لا أزال أحس بغيمة تغشى بصري؟

    مؤشر الكتابة يومض ليستفزني، كأنه يقول أنني أعرف الإجابة و يتحداني أن أكتبها. حركت يدي و كتبت على وجل: "لكن… هل حنين تحبني؟"
     
    • x 4 إعجاب إعجاب
  9. قصير

    قصير عضو

    انضم:
    ‏7 ديسمبر 2016
    المشاركات:
    41
    التخصص:
    تسويق
    الجامعة:
    kfupm
    سنة التخرج:
    2019
    الجنس:
    ذكر
    التقييمات:
    +119 / 0 / -4
    #9 قصير, ‏12 يونيو 2017
    آخر تعديل: ‏17 يونيو 2017
    (8)

    أقل من دقيقة. هذا كل ما احتاجه الحب الحقير ليتجلى في أقبح صوره.

    أقل من دقيقة منذ اعترافي بحبها، قبل ان اطلب منها مقابلاً لذلك. الحب الحقير حب أناني، يتظاهر فيه المحب بالإهتمام بالحبيب، بينما ما يهتم فيه فعلاً هو المقابل الذي يأتيه من هذا الحب. الحب الحقيقي حب تقدير، الحب الحقير حب إحتياج. الحب الحقيقي حب للآخرين، الحب الحقير شكل آخر من أشكال حب النفس.

    بعد ان كتبت الجملة الأخيرة ارتميت على فراشي و نمت دون محاولة. ليس لأن ضميري ارتاح أو أن مشاعري فترت، بل من شدة الإنهاك الذي أصابني بسبب الكتابة. كنت أقول لنفسي و أنا أغفو انها كانت تجربة ممتعة. لم أكن أعلم أن هذه "التجربة"ستلازمني في كل الليالي التالية، و أن الكتابة ستصبح طبيبي النفسي الخاص الذي أبوح له بالأشياء التي أخفي عن الآخرين. خصوصاً الأشياء التي تتعلق بها.
    عندما استيقظت للعمل اليوم التالي لم يكن شيء قد تغير، بالرغم من اني اعتقدت العكس. توجهت إلى العمل ذلك اليوم عازما النية على فتح صفحة جديدة، للمرة الخمسين منذ قابلت حنين. و للمرة الخمسين منذ قابلت حنين، تلونت صفحتي الجديدة بمجرد أن رأيتها تبتسم في وجهي و تلقي السلام علي. هكذا بدأ الشهر الخامس منذ لقائنا، و هكذا انتهى. نفس المعاناة السابقة، مرفوعة إلى القوة العاشرة.

    لا أعرف من الأحمق الذي قال ان الوعي بالمشكلة هو نصف حلها. كانت المشاكل هي نفس المشاكل، الفرق الوحيد هو أنني أصبحت الان أعرف سببها، و هذا لم يساهم سوى في زيادة الألم و الغضب الناتجان عنها. عندما استأذنت هي في أحد الأيام مبكراً بسبب ظرف عائلي، ظللت أنا ساعة زائدةً في الدوام ألخص كل الأفكار و النقاط التي ناقشناها في الإجتماع، لأعطيها قبل اجتماع الغد. و كنت واعياً تماماً بأنني أفعل ذلك لأنال إعجابها، و هذا الوعي لم يدفعني للتوقف.

    كنت أعتقد مع كل تفاقم للألم الناتج عن هذا الحب أنني سأكرهها في النهاية. لم أفهم أبداً الفخر الغريب الذي يحمله المحبين في ألمهم. كل القصائد و الأغاني التي تمجد الألم الناتج عن الحب و تركض خلفه. كيف تحب شخصاً و هو مصدر ألمك؟ أليست مشاعرنا تجاه الأشخاص مقرونة بتأثيرهم علينا؟ نحب من يجعلنا نشعر بالسعادة و نكره من يجعلنا نشعر بالحزن؟ لم أكن أعرف ان الحب شعور منفصل تماماً عن باقي المشاعر. لا يمكن تصنيفه كشعور جيد أو شعور سيء. هو مزيج غريب و متغير من الحزن و السعادة، النشوة و الإكتئاب.

    و ما لا يعرفه الكثير عن شعور الحب، هو أنه مثل مخدر أو مسكر، شعور إدماني. و كنت في الشهر الخامس أعيش ذروة إدماني. من جديد، لا أريد أن يفهم كلامي على أنه تعزيز لخرافات الحب المبتذلة، تلك التي تصف المحب عابداً لحبيبه، يطيعه في كل شيء يقوله ولا يرى شيئاً غيره. لكن ما كان يحدث كل يوم لا يمكن وصفه بأقل من إنطماس تام للهوية. مع كل نكتة تقال في الاجتماعات كنت ألتفت تجاهها مباشرة لأرى ردة فعلها. مع كل قصة طويلة يرويها خالد كنت ألتفت لأرى أتبتسم أم تعبس. لم أكن أتفق مع رأيها دائماً، لكنني كنت أهتم جداً فيه. أصبحت هي النموذج الذي أقيس نفسي به، ردات فعلي الطبيعية تقارن جميعها بردات فعلها هي. أفرح اذا اتفقنا في شيء، و أسرد مئات التبريرات اذا اختلفنا في شيء آخر.

    و السؤال الذي كان يؤرقني طوال ذلك الشهر، هو السؤال الأخير. هل تحبني حنين؟

    منذ فجر التاريخ و الصورة النمطية لأسى حب الطرف الواحد هي فتاة تقطع بتلات زهرة و تتمتم: "يحبني. لا يحبني. يحبني. لا يحبني". أقترح أن يتم تحديث هذه الصورة لرجل بالغ يلتهم عشرات المقالات السخيفة عن "لغة الجسد" و "كيف تعرف أن شخصاً يحبك". مريعة كمية الوقت التي قضيتها و أنا أحاول تحديد الاتجاه الذي تشير له أصابعها اذا تكلمت.
    كنت أطير فرحاً اذا تذكرت تفصيلاً يخصني مهما كان سخيفاً، مثل اليوم الذي قالت لي فيه: "ابي اطلب لنا كلنا شاهي الا انت قهوة، صح؟". و أغرق حزناً اذا نسيت تفصيلاً آخر، مثل اليوم الذي سألتني فيه للمرة الثالثة: "الا انت من أي جامعة متخرج؟". كانت الإحتمالات هي إما أنها تحبني، تحتقرني، أو أنها لا تفكر فيني أصلا. و لسبب ما كنت أخشى الأخير أكثر من الثاني.

    كرهت تلك الأيام بقدر ما أدمنتها. كنت في طريق العودة الى الشقة كل يوم أعاتب نفسي على ضعفها و هوانها. و في طريق الذهاب إلى العمل أكاد أرقص فرحاً لأني سأراها اليوم. و هكذا دواليك، دوامة لا تنتهي. في بعض الأيام كنت مسيطراً على الوضع، أتلقى اللكمات التي توجهها لي نفسي الضعيفة بصبر و دون شكوى. و في أيام أخرى كنت على شفا حفرة من فقدان عقلي، ترتديني التعاسة و أرتديها. اسأل نفسي كيف وصلت إلى هنا؟ قبل أشهر قليلة كنت أعيش حياةً مختلفة تماماً. قبل أشهر قليلة كنت شخصاً مختلفاً تماماً.

    مع نهاية الشهر الخامس، كنت أعيش أحد تلك الأيام الأخرى.

    كنت أحس بالإختناق الذي ألفته تلك الفترة، الساعة تشير إلى الثالثة و أنا لم أستطع النوم بالرغم من كل المحاولات. حاولت الكتابة، إلا أن الصفحة اللعينة لا تستطيع الكلام. كنت أحتاج صوتاً يرد علي، نصيحة تدلني على الطريق الصحيح. لذلك عندما شعرت أن اليأس بلغ منتهاه، التقطت هاتفي و أرسلت لسطام: "صاحي؟". جائني رده بعدها بثواني: "ايه، وش عندك؟".

    أرسلت له: "تخاوي الكورنيش؟". و إلى هذا اليوم أتمنى لو أنه رد علي ب: "لا".
     
    • x 4 إعجاب إعجاب
  10. قصير

    قصير عضو

    انضم:
    ‏7 ديسمبر 2016
    المشاركات:
    41
    التخصص:
    تسويق
    الجامعة:
    kfupm
    سنة التخرج:
    2019
    الجنس:
    ذكر
    التقييمات:
    +119 / 0 / -4
    (9)

    بالرغم من كل "الأولات" التي تعنيها حنين لي، الا أنها لم تكن حبي الأول. تلك المكانة تنتمي لشخص أكثر إستحقاقاً.

    في التاسعة من عمري أجبرتنا ظروف والدي الوظيفية على الإنتقال من حارتنا الصغيرة في عفيف إلى ربوع الطائف المزهرة. و استخدامي لكلمة "أجبرتنا" هو استخدام مجازي في غير محله، لأن كل أفراد عائلتي سعوا سعياً حثيثاً لإحداث هذا التغيير. والدتي أرادت الإنتقال إلى الطائف منذ زواج خالتي مها و انتقالها هناك. أختي أميرة هي الأخرى أرادت الإقتراب من ابنة خالتنا أمل. و والدي بنفسه لم يعد يريد البقاء في عفيف بعد أن غادرها جميع إخوته، المحافظة الصغيرة أصبحت وحيدةً جداً بالنسبة له، و كأنه فجأة بدأ يفهم مطالبات والدتي المستمرة بالرحيل. أما أنا، فكنت أكثرهم شوقاً للهرب من الوحدة.

    لو زرت طبيباً نفسياً، أجزم أن أول ملاحظة يسجلها في دفتره ستكون ربطاً بين شح الأصدقاء في طفولتي و إعتقادي الدائم بأني أفضل من الجميع. لم يكن هناك سبب واضح لتلك الوحدة. ربما رفضني أقراني لأني كنت أكثر تفوقاٌ دراسياً منهم. ربما كوني الوحيد دون أقارب في المدرسة -حيث يتحرك الجميع في دوائر مكونة من أبناء العمومة- جعل من التعرف علي أمراً صعباً. لا أعرف. ما أعرفه هو أنني مع نهاية الصف الثالث كنت أقضي كل فسحة في الفصل، أحل واجباً أو اقرأ كتاباً. عندما لاحظت استغراب بقية الطلاب مني، كانت ردة فعلي الطبيعية هي التقليل من شأنهم. بالنسبة لي، أبناء عفيف كانوا أدنى مرتبة مني، و هم الذين يرون في القراءة عيباً و يفضلون الركض و العبث طوال اليوم. كنت أنتظر الإنتقال للمدينة على أحر من الجمر. المدينة، حيث المكتبات العامة، و الطلاب المتعلمون، و الرفقة التي ستقبلني.

    بالطبع، نسائم الطائف الباردة هبت لتنثر أحلامي الطفولية. أبناء المدينة الكبيرة لم يختلفوا كثيراً عن أبناء المحافظة الصغيرة. و إن وجد إختلاف فهو نقص في المروءة عند أغلبهم. حتى أحاديث أميرة التي كانت تؤنسني سابقاً، صارت تفضيها إلى أمل. كأن كل عائلتي حققت ما أرادت، و بقيت أنا نفس الغريب الذي كنت. و هكذا مضت أيام الصف الرابع مثل سابقاتها. فجوة عميقة من الوحدة، أحاول ملأها بالدراسة و الروايات و الإنتقاص من الآخرين.

    و في الحصة الثانية من أحد أيام الدراسة، دخل غريب آخر.

    لم يكن لقاءً "حنينياً"، لم يثر الغريب فضولي تجاهه، لم أتسائل من أين أتى أو أي نوع من الطلاب كان. بل بالكاد رفعت رأسي من كتابي لأرى وجهه قبل أن أعاود القراءة. حتى عندما كنت في طريقي إلى منزلي، و لاحظت أنه يمشي خلفي بعدة خطوات، لم أهتم. لم أهتم به أبداً حتى جاءت الإختبارات النهائية، و سمعت أحدهم يصرخ في وجهه: "يا أخي ناديتك أكثر من مرة و مسوي ما تسمعني؟". رد هو ببرود: "الا سمعتك". قال الآخر: "و ليش ما علمتني؟". رد: "لأن الغش حرام".

    ردة الفعل التي تبعت جملته هذه لا تقدر بثمن. الحمقى أمامه تبادلوا النظرات بينهم بإستغراب، و كأنهم يستوعبون للمرة الأولى أن قيود الدين لا تقتصر على النساء فقط. ضحك زعيمهم وقال: "ارحمنا يا مطوع، ما ينلام من سمَاك سطام النفسية". كانت تلك المرة الأولى التي يتقلص فيها غروري ليجبرني على إحترام أحد أقراني. بعد أسبوعين تكلمنا في طريق عودتنا من المدرسة، لا أذكر عن ماذا بالضبط، لكن لابد أنها كانت محادثة مبهجة لأنها تكررت اليوم الذي بعده، ثم الذي بعده، ثم الذي بعده. و في فترة قصيرة أصبحنا ننتظر بعضنا عند الخروج، و في فترة أقصر انتقلت محادثاتنا إلى داخل الفصل بعد أن جلس بجانبي. دون أن أدري أصبحنا معاً في كل وقت، عرفني على أصدقائه و عرفته على كتبي، و صارت إجابتي التلقائية لسؤال "وين رايح" هي "لسطام".

    لسنين طويلة ستكون هذه صفة سطام الرئيسية، كان دائماً وجهتي. عندما تم قبولي في البترول كان هو أول من يعرف، قبل أهلي حتى. شاركته الخبر و كأنني أعزيه. كان هذا القبول يعني نهاية ثماني سنين من الدراسة سوياً، ثماني سنين من الركض خلف الوكلاء و اختلاق أعذار مزيفة لتغيير الفصول، ثماني سنين من المشي معاً إلى منازلنا. بالرغم من كل هذا إلا أنه استقبل الخبر و كأنه صاحبه، بل فرح لي أكثر من نفسي. عندما لاحظ نكدي طمأنني بأني لا أحتاج للقلق، بأن مستقبلي يلزمني بأن أختار أفضل الفرص المتاحة، و أنه أصلاً قرر الدراسة في الأحساء عند أقاربه، فالإنضمام للبترول هو الخيار الأمثل لصداقتنا. و كان محقاً كالعادة، بدليل أني حفظت كل شبر بين الظهران و الأحساء.

    عندما تخرجت أمطرني الأقارب و الأصدقاء بالساعات و الأقلام و الأموال. أما هو فقد أهداني كتاباً لتطوير الذات. كنت أعتقد أنها مزحة غبية منه لأنه يعرف أني أبغض هذه النوعية من الكتب و أتمنى زوالها، لكنه حذرني من رمي الكتاب و أصر أن ألقي نظرة عليه. عندما فعلت، لاحظت أن آخر 3 صفحات من الكتاب كانت فارغة، مساحة تركها الكاتب لقرائه الأغبياء حتى يكتبوا عقداً مع أنفسهم يلزمهم بتحقيق أهدافهم، و كأن شحذ العزائم لا يتم الا بهذه الطريقة السخيفة. بدلاً من ذلك، قام سطام بملئ الصفحات الثلاث بشيء يشبه الذي أكتب الآن. كانت رسالة صادقة يقول فيها أنني كنت قدوة له، أن وجودي في حياته قد غيرها إلى الأفضل، أني أنا غيرته إلى الأفضل. و أنه يتمنى لي التوفيق، لأن "الناس الصادقة مع نفسها ربي ما يخيب رجاها". صدئت الساعات، جفت الأقلام، تبخرت الأموال تبخر المياه تحت الشمس، ولا يزال هذا الكتاب السخيف بجانب سريري.

    ليلة أخبرته عن حنين، كانت تلك الرسالة حبلاً حول عنقي يمنعني من الكلام. كانت نيتي أن أخبره في السيارة، لكن لم أستطع. أردت أن أخبره بمجرد أن وصلنا إلى البحر، لكن لم أستطع. صلينا الفجر في جماعة، و أردت أن أخبره بعد التسليم مباشرة، لكن لم أستطع. كان خوفاً مريعاً ذلك الذي تملكني. تخيلت ردة فعله الغاضبة، تخيلته يصرخ في وجهي، يتهمني بأبشع التهم، يلعنني و يلعن زيفي معي. للأسف، كانت ردة فعله اسوأ من خيالاتي.

    "فيه بنت في الشركة اسمها حنين .. أحس أني أحبها"

    كانت السماء السوداء قد بدأت تميل للزرقة حين قلتها. لفظت الكلمة الأخيرة مثل طفل ينزع ضمادة بسرعة خوفاً من الألم. مرت لحظة صمت، ثم قهقه سطام. كانت قهقهته الغير مصدقة أكثر إيلاماً من أي صرخة أو شتمة أو لكمة توجهت لي. صديقي لا يتوقعها مني. عندما أكدت على كلامي، اختفت القهقهة، و ظل التكذيب بادياً على وجهه. قال : "وش قصدك تحبها؟"

    هممت بالتبرير. كان هدفي الرئيسي هو إقناعه بأنني لست منهم. بأنني لست ممن نحتقر. لكن هذه المهمة كانت أصعب مما توقعت.

    اللغة التي نستخدمها للحديث عن الحب لغة ملوثة. لغة تمرغت بأطنان من الأغاني و القصائد الماجنة، فأصبح الحديث بها لا ينفك يفوح بشيء من هذا المجون. أردت أن أقول له أن نواياي صادقة، أن مشاعري مصدرها العاطفة لا الجسد. إلا أن هذا التعبير بدى مبتذلاً و ساذجاً و خبيثاً. أردت التشديد على نزاهتي، بأنني لست أهلاً لهذه التصرفات، إلا أن هذه الحجة لها تاريخها الخبيث هي الأخرى. كل كلمة أردت قولها لتبرئتي كانت ستدينني أكثر. في الأخير استسلمت، و وصفت ما أشعر.

    "أحس أني أهتم فيها .. فاهم كيف؟ .. يعني طول الوقت .. طول الوقت أحس أن ودي أكون معها"

    فاحت رائحة المجون له، و ظن الأسوأ. رد مشيحاً بوجهه: "عيب عليك يا ولد"

    و مع شروق شمس ذلك اليوم، شعرت بأفول إحترام صديقي لي.
     
    • x 1 إعجاب إعجاب
  11. قصير

    قصير عضو

    انضم:
    ‏7 ديسمبر 2016
    المشاركات:
    41
    التخصص:
    تسويق
    الجامعة:
    kfupm
    سنة التخرج:
    2019
    الجنس:
    ذكر
    التقييمات:
    +119 / 0 / -4
    (10)

    لنفترض أن هاتفك الجوال سقط من يدك و ارتطم بالأرض، و عندما رفعته لاحظت صدعاً في أحد أطراف الشاشة. الصدع ليس كارثياً، صحيح أنه يمنعك من الرؤية حوله، لكن ثلاثة أرباع الشاشة لا تزال سليمة و واضحة. السؤال الآن، هل ستسعى إلى إصلاح الهاتف بكل السبل المتاحة، و التي من الممكن أن تقود إلى تغيير الهاتف بالكامل؟ أم أنك سترضى بهاتف متصدع؟

    عندما صارحت سطام بمشاعري، لم تنتهي صداقتنا، لكنها تصدعت للأبد. لا نزال نقضي أغلب وقتنا معاً، لا نزال نمشي على البحر و نرمي هموم اليوم عليه. لكن بمجرد أن ينطق أحد حولنا كلمة "حب"، أشعر به يتفادى النظر إلي. الرحلات البائسة إلى الأسواق أصبحت أكثر بؤساً دون مرح سطام المعتاد، أصبح يعاملني في أي مكان به نساء كما تعامل الأم ابنها إذ مروا أمام محل ألعاب. لا أعتقد أنه يراني شخصاً سيئاً أو حقيراً. سطام لا يؤمن بالحلول الوسطى، و لو رأى مني سوءاً متأصلاً لقطع علاقته بي. لكن بالنسبة له، أصبحت ذو سوابق، و لم يعد يستطيع ضمان أفعالي مثلما كان في السابق.

    و بالنسبة لي حمدت الله أنه لم يكرهني، و رضيت بالهاتف المتصدع. لم أذكر له حنين بعد تلك المحادثة، كل المحادثات التي خضناها عن الموضوع كان هو مبتدئها. و كنت أنا أجاوبه على قدر سؤاله و أغير الموضوع تلقائياً. ليس لي رغبة في زيادة الصدع.

    بدلاً من سطام، أصبح "الوورد" نديمي إذا تعلق الموضوع بحنين. في الشهر السادس كنا نضع اللمسات الأخيرة على خطة المشروع الجديد، و كنت أكتب كل ليلة لئلا أنفجر قهراً. في منتصف ذلك الشهر سلمنا الملف النهائي، و عقدنا إجتماعنا الأخير، حيث هنأنا أحمد على مجهودنا، و أعلن أننا سنعود لروتيننا السابق غداً. كنت شارد الذهن طوال الإجتماع، أفكر في كل الإجتماعات السابقة، و كيف أنني لن أقضي معها مثل هذا الوقت مرة أخرى. ثم تخيلت سطام يسمع أفكاري، و شعرت بالخجل. في نهاية الإجتماع، تبادل الأعضاء التهاني الرسمية، مثل "يعطيكم العافية يا جماعة" و "الكل ما قصر". و عندما هممت بالخروج اقتربت حنين و قالت لي: "شغلك جداً ممتاز، فرصة سعيدة العمل معك". كتبت سبع صفحات تلك الليلة.

    بالرغم من كل هذا، إلا أن محادثتي مع سطام كانت ضرورية. هل أندم على إفصاحي؟ بالطبع. هل سأكررها لو عرفت أنها ستغير نظرته لي للأبد؟ لا. لو عدت بالزمن لرضيت بصمت الصفحات البيضاء و حافظت على بياض صداقتي بذلك. لكن علم سطام بالموضوع أجبرني على إحترام بوصلتي الأخلاقية. لو لم يكن سطام هناك ليدفعني لما فعلت الشيء الصحيح، الشيء الذي كان ينبغي علي فعله منذ عرفت أنني أحبها.

    "وش تبي تسوي طيب؟"

    سألني يوماً دون سبب. رددت: "أسوي في وش؟". قال: "في البنت الي تحبها. الحين اذا انك من جد تحبها وش ناوي تسوي؟". فهمت قصده مباشرة، و أكذب لو قلت أنني لم أفكر في الموضوع. في نهاية المطاف هذا هو الخيار المنطقي، و كذلك الطريقة الأفضل لأعرف أتحبني أم لا.

    الخيار الوحيد أمامي للحفاظ على نزاهتي، هو أن أتغلب على جبني، و أطلب من حنين أن تتزوجني.
     
    • x 1 إعجاب إعجاب
  12. قصير

    قصير عضو

    انضم:
    ‏7 ديسمبر 2016
    المشاركات:
    41
    التخصص:
    تسويق
    الجامعة:
    kfupm
    سنة التخرج:
    2019
    الجنس:
    ذكر
    التقييمات:
    +119 / 0 / -4
    (11)

    حياة الإنسان بطبيعتها عملية تراكمية. آلاف الأيام العادية و المملة، تتراكم فتعطي لحياة كل منا شكلها الحالي. كل شيء له سبب، كل حدث كبير قادت له مئات الأحداث الصغيرة. لكن بطبيعة الحال تبرز الأحداث الكبيرة لكبرها، و تختفي الأحداث الصغيرة التي قادت إليها.

    كل ما سبق كان سرداً للأيام العادية، التي بدورها قادت إلى اليوم المصيري. و الأيام المصيرية تأتي بغتة، لا تعطي تحذيراً بقدومها. تأتي و ترمي بكل خططك عرض الحائط. تأتي لتختبر معدنك الفعلي.

    في يومي المصيري المشؤوم، كنت لا أزال أجهز خططي. كنت قد عزمت النية على طلب الزواج من حنين، لكن لم أعرف أين ابدأ. التفكير بالموضوع بحد ذاته بدى أمراً غريباً لا يقبله العقل. هل أذهب إلى مكتبها بشكل مباشر و أصارحها بالموضوع؟ هل أطلب رقمها و أعطيه لوالدتي حتى تخطبها لي؟ ياااااه يا والدتي، كيف سأشرح الموضوع لأهلي أصلاً؟

    كنت أفكر في تلك الأسئلة عندما اتصل بي أحمد، طالباً مني القدوم إلى مكتبه. عندما دخلت مكتبه كانت إبتسامة واسعة تعلو وجهه، طلب مني الجلوس بحماس. بدأ بالرسميات المعتادة، ثم انتقل إلى المشروع الجديد و هنأني على المجهود المبذول في تخطيطه. ثم قال: "مثل ما أنت عارف هالمشروع محتاج مراقبة مستمرة في مرحلة التنفيذ، لذلك الإدارة قررت تختارني كمدير للمشروع". و بمجرد أن باركت الله استأنف: "لكن هالشيء معناه اني ما راح أقدر أكون مدير هالقسم. الإدارة تفضل أنها ترقي داخلياً، فطلبوا مني أرشح موظفين من عندنا مؤهلين للمنصب. و بناءً على الشغل الي سويتوه في المشروع الجديد، رشحتك أنت و حنين. و بما أن منصب المدير يحتاج خبرة، الإدارة اختارت حنين للمنصب."

    كانت عباراته الأخيرة تلك دوامةً من المشاعر. الفرح لترقية أحمد، الإثارة مع ذكر إدارة القسم، الحب مع ذكر حنين، الحزن لخسارة المنصب، الفرح لترقية حنين. كلها اجتاحتني في ثواني معدودة. بمجرد أن سكت تكلمت حتى لا يظن أني أغار منها: "ما شاء الله تستاهل والله". أضاف هو بإبتسامة: "لكنها رفضت الترقية". عندما لاحظ ملامح وجهي المستغربة وضح قائلاً: "أنا قابلت حنين الصباح و تكلمت معها، صح أن عندها خبرة لأنها اشتغلت في 5 شركات مختلفة، بس هذا يدل بعد على نقص في الإلتزام، فكان لازم اسألها إذا عندها الإستعداد انها تلتزم مع الشركة، لأن تعويض موظفة بسيط لكن تعويض مديرة صعب جداً. و كانت إجابتها الصريحة هي لا، ان ما عندها استعداد تلتزم بالشركة لفترة طويلة ولا عندها استعداد توقع عقد يجبرها على هالشيء. و اتفقت معي بأنك خيار ممتاز لإدارة القسم. لذلك السؤال الان هو، هل عندك استعداد تلتزم مع الشركة؟"

    شعرت بالسعادة التامة للمرة الأولى منذ شهور. جاء المنصب المنشود، و الأجمل أنه جاء بمباركتها. لم تفارق الإبتسامة وجهي و أنا أشكر أحمد، لم تفارقني حتى عندما أخبرني أن التوقيع الرسمي سيكون نهاية الأسبوع. خرجت و قدماي بالكاد يلمسان الأرض، كنت أطفو فرحاً. طفوت حتى طرقت باب مكتبها.

    "مبروك"، قالت هي عندما رأتني، رددت أنا بإبتسامة: "يبارك فيك". أكملت: "بس جيت أقول لك شكراً، أحمد قال لي أنهم عرضوا عليك الوظيفة و انك رفضتي و رشحتيني لهم. فيعطيك العافية عالترشيح".

    أتذكر كيف وقفت هناك، أنظر لها مباشرةً، متظاهراً بالبراءة. أكلمها و كأنها أي صديق عمل آخر، كأنني لا أخفي دافعاً آخر. وقفت في مكتبها يكاد يلتهمني الخجل، أنا الذي فسخت الحياء.

    ردت: "لا أبد ما له داعي الشكر، ما قلت الا الحق و أنت فعلاً تستحق الترقية". قلت محاولاً استخفاف دمي بصفاقة: "لا يكون رفضتيها لأنك تشوفيني أستحقها أكثر منك؟". أكرمتني بأن ضحكت و قالت: " لا لا، هي الفرصة حلوة والله بس ازعجني العقد طويل الأمد، لأن فيه احتمال أنتقل للرياض اذا تيسر وضع خطيبي هناك، ولا ودي ألتزم بعقد بعدين أضطر أكسره"

    وقعت من السماء السابعة. لم تلمس قدماي الأرض، بل غاصتا فيها. الحب المشبوه صار مداناً، انقشعت الغمامة و تأكدت حقارته. شعرت بأنني أدفن حياً، بأن التراب يبتلعني. ماجت بي الأرض و هاجت، ثم لفظتني متقززة. وقفت في مكتبها بجناحين مكسورين، و قلب معصور، و إبتسامة يرتديها الأرامل.

    "الله ييسر لك حنين"
     
    • x 2 إعجاب إعجاب
  13. قصير

    قصير عضو

    انضم:
    ‏7 ديسمبر 2016
    المشاركات:
    41
    التخصص:
    تسويق
    الجامعة:
    kfupm
    سنة التخرج:
    2019
    الجنس:
    ذكر
    التقييمات:
    +119 / 0 / -4
    (12)

    أعظم مأساة بشرية، هي أننا لا نختار مشاعرنا.

    لا أعرف لماذا تعلقت بحنين دون أن أعرفها. ربما لأن بشرتها السمراء تذكرني بوالدتي، ربما لأن تخليها عن المكياج أوحى لي بأنها امرأة لا تهتم. ربما لأنني اعتقدت أننا نشبه بعضنا الآخر، أننا نتواصل بطريقة لا يعرفها الآخرون. ربما لأن سنيناً من العفة و التعفف أجبرتني أن أعيش مراهقةً متأخرة. ربما لأن الله أراد أن يريني ضعفي و هواني.
    و في المقابل، أردت منها أن تحبني هي الأخرى. أردت أن أكمل طقوس حبي، أن يتوقف العذاب العاطفي الناتج عن رؤيتها لساعات معدودة كل يوم، و أن أكون معها كما أريد. أردت أن أجلس معها طوال الوقت، أن نتكلم عن كل شيء. أردت أن أقابل والديها، و تقابل هي والديَ. أردت أن أعيش معها في نفس المنزل، أن أنام معها في نفس السرير. و ليحصل كل ذلك كنت أحتاجها أن تحبني.
    بالطبع، مع نهاية الشهر السادس من علاقتنا، تغير سؤال "أتحبني أم لا؟" بشكل جذري. ثماره التي تخيلت قضمها أصبحت مسمومة. عيشي لتلك الخيالات أصبح مستحيلاً. و مجرد تخيلي إياها أصبح دليلاً على زيفي و قذارتي. و هنا، تظهر المأساة البشرية وجهها. بالرغم من كل ما سبق، لا يتوقف الحب عن كونه حباً، الدين و المنطق و الأخلاق لا يقللون من جاذبية تلك الخيالات ولا يثنونني عنها. لم أختر أياً من هذه المشاعر، هي اختارتني.

    لكن، أعظم رحمة أنزلها الله على عباده، هي أننا نختار أفعالنا.

    في مطلع الشهر السابع، دخلت مكتب أحمد حاملاً في يدي كفارتي عن الشهور الست الماضية، و سترة نجاتي للآتي من الشهور. شكرت أحمد على إحترافيته و لطفه، صفتان قلما يجتمعان. أكدت له أن قراري جاء نتيجة ظروفي الشخصية، تركت الورقة على مكتبه بعد أن سمح لي بأن أتجاهل فترة الإشعار، و توجهت إلى مكتبي لإنهاء و توزيع ما تبقى من مهماتي. في تلك الساعات طرق باب المكتب أكثر من عشرين مرة، سيل عارم من الأسئلة و الدعوات بالتوفيق.
    حملت ما ملكت من أغراض، و توجهت إلى المصعد. عندما مررت من أمام مكتبها نادتني. توقفت مثل قلبي. عندما خرجت و رأت الصندوق قالت: "أجل سارة صادقة يوم تقول انك استقلت؟ ليه؟" ابتسمت رغماً عني: "ايه جاتني فرصة ثانية". ردت: "فرصة أحسن من إدارة قسم هنا؟". قلت: "مب أحسن، لكنها فرصة عمل مع صديق، و فرصة أني أستلم مسؤوليات أكثر". أومأت رأسها و قالت و هي تدخل مكتبها: "مبروك أجل، الله ييسر لك يا صالح".

    أعطيتها ظهري و تظاهرت بأن احترامها لم يعني لي شيئاً.
     
    • x 2 إعجاب إعجاب
  14. قصير

    قصير عضو

    انضم:
    ‏7 ديسمبر 2016
    المشاركات:
    41
    التخصص:
    تسويق
    الجامعة:
    kfupm
    سنة التخرج:
    2019
    الجنس:
    ذكر
    التقييمات:
    +119 / 0 / -4
    (13)

    مرت ثلاث سنين منذ يوم استقالتي، منذ قررت أن أنسى.
    ليت أن الجروح تندمل بالنسيان.

    بمجرد أن خرجت من شركتي السابقة، توجهت للشركة الصغيرة حيث يعمل سطام. بعد شهر من الجلوس في الشقة تم توظيفي بها رسمياً. الان، بعد ثلاث سنين من العمل المضني، وصلت نفس المكانة التي كنت سأحتلها لو قبلت عرض أحمد ذلك اليوم. لا يهم، كل الفوائد و المميزات التي فقدتها تعوضت بالعمل في نفس المكان مع سطام. سنين الجامعة العجاف أنستني كم هو ممتع قضاء اليوم معه. و روحه الطيبة ساعدتني على تخطي خسارة الوظيفة المرموقة.

    أما بخصوص حنين، فكان التخطي أكثر بطئاً.

    كان التحدي هو أن لا أفكر فيها، و بالطبع فشلت فشلاً ذريعاً في البداية. كنت أستيقظ صباحاً، و بمجرد أن أفكر بالدوام أتذكرها، و أتذكر شعور الذهاب إلى العمل عارفاً أنني سأرى وجهها، سأحدثها و ستحدثني، سأسمع اسمي بصوتها كأنه أغنية. افتقدت ذلك الشعور، بعد 6 أشهر من العمل مع حنين نسيت كيف أعمل دونها، لم يعد هناك شيء يدفعني للدوام صباحاً سوى خوفي من الفصل. أين ذهبت طموحاتي السابقة؟ ما الذي كان يحفزني للدراسة و العمل قبل حنين؟ كنت أعود من العمل كل يوم حاملاً هموم الدنيا فوق ظهري، مفرغاً إياها على صفحات الوورد. و لم أكن أستطيع كتابة سطر دون ذكر اسمها. في تلك الأيام شعرت بأن قرار استقالتي كان قراراً خاطئاً، أن لا فرق بين بقائي في الوظيفة و تركها. شعرت بأنني قضية خاسرة ولا مفر لي من هذه الضيقة التي تكتنفني.

    لكن مثلما وقعت في الحب تدريجياً، تسلقت ناجياً منه تدريجياً. دون أن أعي أو أقرر، بدأت مشاعر الولع و الأسى بالخمود. ربما لأنني لم أعد أراها بشكل يومي، فالنار تخبو دون وقودها. و ربما لأن ضغط العمل في الشركة الجديدة أشغلني عن التفكير بأي شيء آخر. لا يهم ما السبب، المهم أن حالتي لم تكن باليأس الذي اعتقدت.
    في الشهر الرابع من الاستقالة توقفت عن التفكير اليومي فيها، و صار الوضع أسهل تلقائياً. في الشهر السابع لم أكتب عنها إلا مرة واحدة، حيث أحضر أحد الموظفين ابنته معه للشركة، و عندما قال ان اسمها حنين كاد قلبي أن يتوقف، و ظللت أراقبها طوال اليوم أبحث عن صفة "حنينية" فيها. بعد فترة توقفت عن الكتابة عنها نهائياً. رأيت هذا الإنجاز دليلاً على إستعدادي لأخذ الخطوة التالية، مع نهاية السنة الأولى رضخت لضغوط والدتي، و قررت الزواج. لم يدم البحث عن الزوجة طويلاً، لا أعتقد أنه يمكن وصفه كبحث أصلاً، كانت أمل أقرب المرشحين و أكثرهم مناسبة، و كانت والدتي تعرف انها لا تمانع الزواج بشكل عام، و الزواج مني أنا بشكل خاص.

    لكن قبل أن أطلب منهم التقدم بشكل رسمي، كان هناك شيء لابد علي من فعله. العلاقات التي تبنى على الأسرار لا تستمر، و لو أن لأمل تاريخ مشابه لتاريخي لأردتها أن تخبرني. جمعت ما استطعت جمعه من الشجاعة، و طلبت من أميرة أن تعطيني رقم هاتفها، و تخبرها بأن تنتظر رسالة مني. ملامح الإستنكار التي علت وجه أميرة لم تكن أمراً غريباً، بل كنت أتوقع أن ترفض طلبي و تشكك في أخلاقي كذلك. لكن بعد ساعات من الجدال و الطمأنة قالت لي: "تراني واثقة فيك، لا تخليني أندم".

    كتبت لها رسالة طويلة ذكرت فيها أنني وقعت في حب فتاة اسمها حنين، و تعلقت فيها جداً، و أنني استقلت من الشركة المرموقة لأنني كرهت ذلك التعلق، لأنني رغبت بشيء أكثر أخلاقيةً. في نهاية الرسالة قلت: "اذا المعلومات الي فوق ضايقتك، فراح أقول لأمي أني غيرت رأيي و ما ابي اتزوج الان. و يا ليت اذا سألتك أميرة وش ارسلت لك تقولين لها أني كنت ابي اكلمك عن شروط الزواج قبل لا اتقدم بشكل رسمي". بعد أن أرسلت الرسالة عشت أطول ست ساعات عرفتها البشرية. كنت أتفقد هاتفي كل دقيقتين، بينما خيالاتي عن ردها تتأرجح بين رد يقول أنها وقعت في حبي بعد هذه الرسالة لأنني رجل شريف و صادق، و رد آخر تشتمني فيه و تتوعد بفضحي عند بقية العائلة. بعد ست ساعات جاء ردها: "ما ضايقتني". تزوجنا بعد شهرين من الخطبة. في عرسي نسيت والدتي كرهها للأغاني و رقصت مع الراقصات. لم يجلس أبي طوال العرس، و ظل مقعد سطام عن يميني فارغاً إذ أبى إلا أن يساعد أبي على تسيير الأمور. رددت له الجميل بعد سنة في عرسه، حيث زاحمت إخوانه الخمسة على كل مهمة ممكنة.

    بالنسبة لأمل، فلم تكن حنين، ولا أريدها أن تكون.

    عندما رأيت أمل في النظرة الشرعية لم يتزايد نبض قلبي و لم تتشتت أفكاري. رؤيتها كانت مثل رؤية صديق قديم، ربما لأنها فعلاً صديق قديم. آخر مرة رأيتها كانت في حوش بيتنا القديم، كنا أطفالاً لم نبلغ الثالثة عشر، و كنت طوال السنين الماضية أفكر فيها كتلك الطفلة التي أذكر. و ها هي الآن امرأة في منتصف العشرينات، طولها يقارع طولي. في السابق كنت أخاف أن تخذلني ذائقة والدتي، كنت أخشى أنني سأتزوج امرأة لا تناسبني، أنني لن أجد الند الذي أبحث عنه، امرأة أستطيع أن ائتمن على أولادي. دخلت أمل حياتي لترمي بكل مخاوفي و شكوكي عرض الحائط، كانت الزوجة التي أردت، و عملت جاهداً حتى أكون الزوج الذي تريد.

    في الربع الأخير من السنة الثانية، و في عشاء العيد، أعلنت أمل حملها للعائلة. اختلطت الفرحات الشخصية بالمباركات للطرف الآخر، قاوم والدانا الدموع، بينما قررت أميرة أن جنس الجنين أنثى، و أن صداقتها مع أمل ستنقطع لو لم نسم ابنتنا على اسمها. و كانت أميرة صادقة، و لو بالصدفة.

    في نهاية السنة أخبرنا الطبيب بجنس المولود. في طريق العودة للمنزل قالت أمل مازحة: "وش رايك نسميها حنين؟". لم أضحك. شعرت و كأنها تتهمني بشيء ما. نسيت أنها حامل، و أن هورموناتها خارج نطاق المعقول، و أننا سنرزق بإبنة، و قررت تخريب الجو. ظللت ساكتاً حتى بعد قولها: "وش فيك سكت؟ ترا كنت أستهبل بس، لا يكون زعلت؟". سكتت هي أيضاً بعد هذه الجملة، كأنها شعرت بالإهانة هي الأخرى. ولا ألومها بصراحة، كيف من المفترض أن تتصرف بعد أن رأت زوجها يتصلب و يفقد كل ملامح السعادة عند ذكر اسم امرأة أخرى. لابد أنها فسرت تصرفي الأحمق على أنني لا أزال أحبها، لا أزال نادماً على فقدانها. ظللنا صامتين حتى وصولنا البيت. و هناك لم نتكلم إلا بشكل جاف لبقية اليوم، مثل: "تبين أجيب لك شيء من برا؟"، ردت هي: "لا، أنا رايحة أنام تبي اسوي لك شيء قبلها؟". عندما دخلت أمل غرفة النوم تسللت أنا لدورة المياه و أجشهت بالبكاء. بعد سنة من الزواج كان هذا أول خلاف يدور بيننا، و كانت حنين هي السبب. أحسست بأن ماضيّ قد عاد ليعذبني، و أنه سيبقى معي للأبد.

    عندما التقينا الصباح التالي، أهدتني أمل أعظم هدية تقدمها زوجة لزوجها الأحمق. قالت بإبتسامة مرتبكة: "فيك حيل نطلع البحر؟ مشتهية أفطر هناك، شرايك؟"

    نحن العرب، السعوديون بالخاصة، لا نجيد التعبير عن مشاعرنا، خصوصاً إذا كانت هذه المشاعر مشاعر ضعف و انكسار. نستطيع أن نصرخ و نندد، لكن لا نستطيع أن نطلب اعتذارا أو نقدمه. عندما نحس أننا أخطأنا بحق أحد ما، أو أن حبيباً أخطأ بحقنا، نتظاهر أن لا شيء حدث، نمد غصناً من النسيان، و نرجو أن يمسكه الطرف الآخر.

    حمدت الله أن رزقني إياها، و تلقفت غصنها بسرور.

    في منتصف السنة الثالثة، ازدان الكون و ابتهجت أطرافه المترامية. في ساعات الفجر الأولى، أشرقت سارة صالح، لتكون عين أبيها الثالثة، و قلبه الثاني، و حبه الأول. مع نهاية السنة، كنت أعيش الحياة التي تخيلت و كدت أفقد. كنت أباً فخوراً، و زوجاً صالحاً، و موظفاً فعالاً. كل الوقت الذي قضيته في العمل قد جاء بمردود، حيث أصبحت عضواً رئيسياً في كل اجتماعات الشركة، و ممثلاً لها في كل المحافل الرسمية.

    قبل أسبوعين بالضبط تمت دعوة شركتنا للمشاركة في حفل يحتفي بالقطاع الخاص في المنطقة. و كان الحفل نموذجاً لكل الأشياء الخاطئة التي تلوث هذا القطاع. سيل لا ينتهي من التكلف و التملق. جلست هناك متململاً أنتظر أن ينتهي الحفل، لأعود إلى منزلي، لأرى ابنتي تلتهم العالم بعينيها. و في طرف عيني، لمحتها.

    تجمد الدم في عروقي. عجزت عن الحركة، استمريت بالنظر إلى الأمام بالرغم من ان قلبي كاد يمزق جسدي هارباً إليها. احتجت عدة ثواني لأسأل نفسي: " أكانت تلك حنين؟". خرج الطيف الأسود من نطاق رؤيتي إلى اليمين، فجأة عاد بي الزمن ثلاث سنين إلى الوراء، كنت كأنني في غرفة الإجتماعات تلك، أعرف أنها هناك، أريد النظر، لكن لا أستطيع. بعد عدة ثوان أخرى التفت إلى اليمين بشكل ميكانيكي، ماسحاً الغرفة لأرى ان كانت هي، دون جدوى، حجم القاعة الضخم لم يساعد. أكنت واهماً؟ نصف النساء هنا يرتدين أحجبتهن بنفس الطريقة، ربما خيل لي أنها حنين. لا أدري، لكني لاحظت أن يدي كانت ترجف، مما كنت خائفاً؟ الحفل الممل أصبح لعبة مميتة من كاسحة الألغام. أي حركة خاطئة، أي إلتفاتتة غير محسوبة، قد تضعني وجهاً لوجه مع حنين. و ماذا سأقول حينها؟

    مرت الساعة التالية مرور السلاحف، و كانت مشاعري فيها مثل بندول ساعة، تتأرجح دون مرسى. انتهى الحفل و خرجت منه أتفادى كل شكل أسود قد اقترب مني. عندما وصلت السيارة، أنبني ضميري، ماذا لو أنها أرادت السلام علي، ثم رأتني أهرب منها هكذا؟ ما ذنب مشاعرها أن تجرح لأني أنا أحببتها؟ خدعتني الشهامة المزيفة، فوقفت عند باب سيارتي أراقب الخارجين. بعد دقائق أجبرتني نظرات المارة على إعادة تقدير موقفي، و اتضح لي غباءه، و كيف ظهر للآخرين. ركبت السيارة، و بمجرد أن شغلتها تذكرت، حنين ليست هنا. هي بنفسها قالت أنها لا تستطيع البقاء في الشركة لأنها ستسافر مع خطيبها. لكني لم أكن متأكداً من ذلك، في نهاية المطاف من الممكن أن خطيبها لم ينتقل إلى الرياض، من الممكن أيضاً انه انتقل و بقيت هي هنا، من الممكن أيضاً أنه لم يعد خطيبها بعد الآن. كان لابد من أن أتاكد. أخرجت هاتفي الجوال، و دخلت تويتر. في قائمة البحث، كتبت اسمها الكامل، و بدأت أفلتر الحسابات بحثاً عنها. بعد عدة دقائق من بحثي اليائس، استقر بندول مشاعري، و انتابني شعور مألوف. شعور يائس محتاج. كم اشتقت لهذا الشعور.

    في ساعة واحدة، هدمت بنيان ثلاث سنين.
     
    • x 2 إعجاب إعجاب
  15. قصير

    قصير عضو

    انضم:
    ‏7 ديسمبر 2016
    المشاركات:
    41
    التخصص:
    تسويق
    الجامعة:
    kfupm
    سنة التخرج:
    2019
    الجنس:
    ذكر
    التقييمات:
    +119 / 0 / -4
    (14)

    لماذا نحب أن نحب؟

    لماذا يمجد الحب في مئات القصائد و الأغاني؟ لماذا يرتدي المحبون ندبات حبهم بفخر؟ لماذا نسميه بعشرات الأسماء التي تنافس بعضها في المبالغة؟ لماذا نعشق؟ نهيم؟ نوله؟ نغرم؟ لماذا الحب -كما ذكرت سابقاً- شعور إدماني؟ في نهاية المطاف لا توجد حاجة كيميائية له، مثل مخدر أو مسكر. لن تنتابني حكة أو صداع اذا لم آخذ جرعتي اليومية منه.

    الحب حالة مكثفة من العيش، يبطئ فيها الوقت، و ترتفع فيها حدة كل المشاعر. اذا ما عشت هذه الحالة المكثفة، تصبح الحالة المستقرة، تلك التي يركض خلفها الجميع، باهتة و مملة. هذا مصدر الإدمان. ليس حاجة كيميائية أو اضطراباً نفسياً يجبرك على فعل أشياء لا تريد فعلها، بل بحث مستمر عن شعور أكثر إثارة. أكاد أجزم أن لو اخترع عالم حبة تستطيع قتل الحب الحقير و إزالة أثره من النفس، لما أخذها أغلب أولئك الذين يشتكون من ويلات الحب، و أنا منهم.

    هنا تكمن لعنة الحب، هذه اللعنة لا تطاردك مثل بقية اللعنات. بل تجعلك أنت تطاردها.

    في طريق عودتي من الحفل كنت قد أيقنت هذه الحقيقة، و استسلمت لشعور الإحتياج بأن يجتاحني. هذا الشعور مني و فيني. ثلاث سنين من الهرب لم تجدي نفعاً. التضحية بوظيفة العمر، و البدء من الصفر مجدداً، لم يجديا نفعاً. لم يكن هناك مفر من هذه اللعنة، مرض "الإحتياج" سيلازمني حتى مماتي. لعنة الحب تتغذى على اسوأ الأجزاء مني، هذا على افتراض أن هناك أجزاء جيدة أصلاً.

    عندما دخلت الشقة، وجدت أمل مستلقية في الصالة، تصارع النوم و في حضنها سارة. هدأت أعصابي، تلاشت الحالة المكثفة، أزيلت الغشاوة عن بصري، و كنت أرى نفسي الحقيقية للمرة الأولى. لسنين طويلة اعتقدت أنني ملاك منزّل، أنني شخص جيد لأنني شخص جيد، أن كل حسناتي هي نتاج شخصيتي المميزة، و أن الحب هو النقطة السوداء الوحيدة في صفحتي. الآن أرى الحقيقة.

    كل ما أنا عليه، كل إنجاز أنجزته، كل حسنة أحسنت، كل صفة تميزني، كلها جاءت بسبب الحب. التميز الدراسي كان حالة مستقرة مملة، كنت كأي طفل آخر أفضل اللعب على الدراسة، إلا أن حبي لوالديّ منعني من الإنجراف خلف إغراء الكسالى. الركض خلف البنات كانت فكرة مثيرة لصالح المراهق، مثلي مثل بقية المراهقين. إلا أن حبي لأميرة، و كرهي لأن تتعرض لشيء مثل الذي أردت أفعل، منعني من اتباع ذلك الطريق، و أجبرني على كره كل من يفعل. قبل ثلاث سنوات التقيت حنين، و ركضت لاهثاً خلف حبها الحقير، إلا أن حبي لسطام أنقذني من تلك الدوامة، و أجبرني على سلك الطريق المؤلم الممل.

    سيلاحقني حب حنين إلى قبري. و إن أنعم علي ربي و أزاله من قلبي، فلا شك عندي أن حباً حقيراً آخر سيحل محله، و سيلاحقني هو الآخر. لكن حب سارة، و أمل، و سطام، و والديّ و أميرة، و خالتي مها و زوجها محمد، حب هؤلاء سيلاحقني أيضاً. الحب الحقير، مثله مثل بقية المشاعر الحقيرة، نشوة مؤقتة متبوعة بأطنان من الندم، لا يزيلها إلا نشوة مؤقتة أخرى. و لأننا بشر، فنحن ملعونون بالحقارة ما حيينا، شهواتنا جزء لا يتجزء منا، و عدد كبير من أيامنا المعدودة على هذه الأرض سيضيع ارضاءً لتلك الشهوات. إلا أنه كلما أسقطنا الحب الحقير أرضاً، سيساعدنا الحب الحقيقي على الوقوف مجدداً. كلا الحبّان خالدان، إلا أن الحب الحقيقي دائماً أقوى.

    تمت
     
    • x 3 إعجاب إعجاب
  16. قصير

    قصير عضو

    انضم:
    ‏7 ديسمبر 2016
    المشاركات:
    41
    التخصص:
    تسويق
    الجامعة:
    kfupm
    سنة التخرج:
    2019
    الجنس:
    ذكر
    التقييمات:
    +119 / 0 / -4
    ما بغينا خخ

    كانت تجربة ممتعة، كتبت الجزء الأول في ليلة كنت مرهق لكن ما جاني نوم، و قلت لي سنين ودي أكتب رواية، ليش ما ابدأ الآن؟ النية كانت اني اخلصها في اسبوع العطلة ذلك، كل ليلة اكتب جزء، و تخلص القصة بعد سبع أجزاء. المشكلة اني ما كنت أدري وش القصة ولا وش نهايتها.

    اذكر شخص ارسل لي في ذلك الأسبوع يقول نزلها كاملة، و قلت له لا تخاف هي كلها كم يوم و اخلص منها، ما كنت أدري أني راح أظل أكتب فيها ست شهور قدام، نفس الفترة الي اشتغل فيها صالح مع حنين.

    على أي حال المعذرة عالتأخير، كان ترم بائس الترم الي راح، و انضغطنا فيه كلنا. إضافة لذلك هذي أول مرة اكتب، ولا كنت أدري وش جالس أسوي، لا أزال ما أدري للأمانة. كل الي أعرفه أني خلصت الجزء 13 مع الاختبارات النهائية. و جلست اراجع الاجزاء السابقة و أعدل عليها الأسابيع الثلاثة الي راحت. قبل كم يوم استوعبت اني لو راح أجلس أعدل عليها فما راح أنشرها أبد، و أني لازم أنتهي من هالقصة و اشتغل على شيء جديد، و يصير الي يصير.

    اتمنى انها أعجبتكم، و أعتذر اذا حسيتوا انها كانت مضيعة وقت. شكراً للناس اللطيفة الي راسلتني عالخاص. موفقين أجمعين.
     
    • x 5 إعجاب إعجاب
  17. احمد فهد

    انضم:
    ‏7 ديسمبر 2013
    المشاركات:
    371
    التخصص:
    .....
    الجامعة:
    KFUPM
    سنة التخرج:
    2018
    التقييمات:
    +18 / 0 / -31
    تسلسل جميل. بالرغم اني لست بقارئ جيد وأكره السطور الطويلة بس تحمست مع الحكاية من البداية

    عجبتني اللغة وتناغم المفردات
    الفلسفة الجانبية كانت إضافه جميله
     
    • x 1 إعجاب إعجاب
  18. jarir

    jarir عضو

    انضم:
    ‏23 فبراير 2014
    المشاركات:
    277
    التخصص:
    Mechanical Engineering
    الجامعة:
    KFUPM
    سنة التخرج:
    2017
    التقييمات:
    +130 / 1 / -17
    أخ قصير .. تبغى تفهمني إن هذي مهي قصة حقيقية ؟؟

    أرجوك لا تقول !!
     
    • x 1 إعجاب إعجاب
  19. قصير

    قصير عضو

    انضم:
    ‏7 ديسمبر 2016
    المشاركات:
    41
    التخصص:
    تسويق
    الجامعة:
    kfupm
    سنة التخرج:
    2019
    الجنس:
    ذكر
    التقييمات:
    +119 / 0 / -4
    هههههههههههههههههه
    القصة كتبتها لأني مريت بشيء مشابه، كل المشاعر الي تكلمت عنها سبق و حسيتها، لكن الأحداث و الشخصيات غير حقيقية. ما فيه لا صالح و لا حنين ولا سطام ولا غيرهم.
     
    • x 2 إعجاب إعجاب
  20. jarir

    jarir عضو

    انضم:
    ‏23 فبراير 2014
    المشاركات:
    277
    التخصص:
    Mechanical Engineering
    الجامعة:
    KFUPM
    سنة التخرج:
    2017
    التقييمات:
    +130 / 1 / -17
    ههههههههههه
    الله يرج إبليسك دخلتني جو .. لكن صدقني عندك موهبة كتابة ما شاء الله

    استمر وفالك النجاح
     
    • x 2 إعجاب إعجاب

مشاركة هذه الصفحة